في البدء كانت الفكرة-د. عبد الكريم برشيد /المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
 أنا الموقع أعلاه

في البدء كانت الفكرة

  د. عبد الكريم برشيد    

مرة أخرى، وكعادتي دائما، سواء في الكلام أو في الكتابة، فإنني لا أبدأ إلا من البدء المؤسس لما بعده، ولا أنطلق إلا من المنطلق المبدئي، الصريح والفصيح، والقائم أساسا على النظر العقلي، وعلى الذوق السليم، وفي هذا الكتاب الجديد، أجد نفسي أنطلق من الاقتناع التالي:
( إن كل قول أقوله، وكل كتابة أكتبها، وكل موقف أقفه، وكل فعل أفعله، وكل تجربة أدخلها، فإن ذلك لا يمكن أن يكون إلا عن اقتناع حقيقي، وأن تكون كلها مساهمات  مادية ومعنوية في الأوراش الاحتفالية الكبرى، وأن تصبح بذلك إضافات حقيقية في الأرصدة الاحتفالية، سواء في الفكر النظري، أو في الإبداعات المسرحية، أدبا وفنا، أو في المواقف الاجتماعية والسياسية، والتي تمثل الجانب الآخر من هذه الاحتفالية) 1
إنني أنا الاحتفالي أقول اليوم، تماما كما قلت بالأمس وقبل الأمس، وت تماما كما سوف أقول كل يوم، أقول الكلمة التالية: 
إن الأصل في هذه الاحتفالية أنها فكرة، والأساس في تلك الفكرة المؤسسة أنها ولادة.. وهذه الفكرة الأولى هي آدم كل الأفكار التي تناسلت منها، وجاءت بعدها، ولقد انطلقت هذه الفكرة من روح الاحتفال، ولكنها لم تتوقف عنده، لأنها محكومة بقانون النشوء والارتقاء.
وبحكم حيوية هذه الفكرة، فقد تطورت، وتجددت، وارتقت مدارج الوجود، وأصبحت منظومة فكرية متكاملة، ووجدت أمامها وخلفها أفكارا أخرى كثيرة، فحاورتها وجادلتها، وأخذت منها وأعطتها، ولقد تجسدت هذه الفكرة في أجساد مادية، وأصبحت بيانات ومسرحيات ، وتشخصنت في أسماء من هذا العصر، وأصبحت بذلك جماعة، واختارت هذه الجماعة أن تكون أسرة، وأن تعيش أخوة الفكر قبل أخوة الدم، وأن تقتسم نفس الرؤية ونفس الموقف، وأن تشترك في نفس الطريق، وأن تحاول الحديث بنفس اللغة الممكنة الوجود، والتي اصطلحنا على تسميتها باسم اللغة الفردوسية، وأن نكتب بنفس الكتابة التي اصطلحنا على تسميتها بالكتابة الحيوية، وأن تسعى من أجل أن تصبح هذه الجماعة الاحتفالية مجتمعا، وأن تكون أكبر من الجغرافيا ومن التاريخ، وأن تكون في مستوى الكونية والأبدية، كان هذا طموحها الذي عبرت عنه بكتابة الأقلام وبكتابة الأجساد والأرواح أيضا، وهو طموح مشروع بلا شك، وإن كان هناك من يرى عكس ذلك، وهذا ما سو نبحثه في هذا الكتاب .
هذه الفكرة، هي اليوم منظومة فكرية وجمالية وأخلاقية متكاملة، وهي تاريخ مؤثث بالحديث والأحداث، وزاخر بالوقائع والتواريخ، وحافل بالأسماء والعلامات، ومزدحم بالمواقف والمواقف المضادة، وبالفعل ورد الفعل، وبالمحطات والمراحل، وبالمواجهات والتحديات، وبالأحلام والتخيلات، وبالنجاح والانكسارات ..
إن تاريخ هذه الاحتفالية، هو تاريخ المغرب المعاصر، وهو نفس تاريخ المجتمع العربي الحديث، بكل أحلامه وأوهامه، وبكل ثوراته وانقلاباته، وبكل معاركه وحروبه، وهو تاريخ العالم الحديث أيضا، ابتداء من بداية القرن الماضي إلى اللحظة الآن، وإلى ما بعد الآن.
في البدء إذن، كانت الفكرة؛ كانت دقيقة وصغيرة، ولما دحرجتها الأيام والليالي ـ مثل كرة الثلج ـ ولما تداخلت مع الأفكار الأخرى، وعايشتها، وحاورتها، فقد كان ضروريا أن تكبر، وأن تتسع، وأن تتضح معالمها أكثر، وأن تتمدد رأسيا وأفقيا وفي كل الاتجاهات، وأن يكون ذلك التمدد بفعل حرارة الحياة فيها، وبفعل الطاقة التي تختزنها داخلها. وهذه الطاقة الاحتفالية، هي أساسا طاقة وجدانية وروحية، وذلك قبل أن تكون طاقة مادية.
لقد وجدت هذه الفكرة تربة خصبة، في أرض خصبة، فنمت وترعرعت، ووجدت مناخا طيبا، فكان ضروريا أن تعطي نباتا طيبا، ولو قدر لها ـ مثلا ـ أن تظهر في غير تلك الأيام، وفي غير تلك الأجواء المفتوحة والمتسامحة، ما كان لها أن تبلغ ما بلغته اليوم، وعليه، فمن الضروري أن نشكر الظروف التي ولت، وأن نشكر ذلك المناخ الثقافي والسياسي الذي كان، والذي أصبح اليوم ـ مع كامل الأسى والأسف ـ في خبر كان.
لقد وجدت هذه الاحتفالية من يؤمن بها، ووجدت من يكفر بها، ووجدت من يثق بها، ومن يكذبها، ولقد كان ذلك الاختلاف حولها شيئا طبيعيا، وكان عنوانا على وجود حركية فكرية حقيقة ونظيفة، ولم يكن ـ كما هو الحال الآن ـ مدعاة للتآمر الفج عليها، وللتحالفات المشبوهة ضدها، وللعمل السري في الكواليس المظلمة، وللاستقواء بذوي السلطان والنفوذ، وذلك لإبعادها عن دائرة الضوء، ولتغييبها ولاغتيالها بدون محاكمة علنية  .
لقد وجدت هذه الفكرة من يؤمن بها، ولولا ذلك لماتت وهي في درجة التأسيس، كما وجدت من يعشقها، ومن يتحد بها، ومن يتماهى فيها، ووجدت من يرعاها، ومن يدافع عنها، ولأنها خرجت من التجريد إلى التجسد، ومن التنظير إلى الممارسة، ولأنها أيضا، تشخصنت في أشخاص من أهل هذا الزمان، فقد أصبحت ذاتا متكاملة، وأصبح بإمكانها أن تحيا، وأن تعيش حياتها بشكل طبيعي، وأن تدافع عن حقها في الوجود، سواء أمام أمراضها الداخلية، أو أمام تلك الأوبئة الفتاكة التي تأتي تسوقها الرياح، والتي تأتي بها من كل الأمكنة ومن كل الجهات، ولقد ثبتت هذه الاحتفالية، وعلى امتداد ما يقارب أربعة عقود، أمام الرياح والعواصف، وقاومت الأعاصير والزوابع، واستطاعت، بفضل مناعتها الحيوية الداخلية، أن تجتاز امتحان الانتخاب الطبيعي بسلام، وأن تخرج من امتحاناتها، أقوى مما كانت، وأكثر اقتناعا بفكرها وفنها وعلمها، وأكثر تمسكا بمنظومتها الأخلاقية أيضا  .
لقد خرجت هذه الاحتفالية من عقل منظم، ولو أنتجها الهوى لتبخرت مع الهواء، ولأنها فكرة عاقلة، فقد كانت منسجمة مع ذاتها، ومع منطقها، ومع محيطها الفكري والعلمي والجمالي، ولعل هذا هو جعلها تكون قادرة على الإقناع، معرفيا وجماليا، وجعلها تصبح منظومة أفكار متكاملة، وأن يكون هدف هذه المنظومة الفكرية هو تأسيس مجتمع العقل، وهو البحث عن مجتمع القلب العاقل، وهو الرحيل إلى مجتمع الروح، ولن يكون هذا المجتمع المركب إلا مجتمعا احتفاليا بالضرورة.
كما أن هذه الفكرة قد خرجت من إرادة حرة ومستقلة، إرادة صلبة وقوية، وقد كان ضروريا أن تترجم ذاتها إلى مواقف مبدئية واضحة وصريحة، وأن تكون مستعصية على التساهل في الحق والحقيقة، وأن تكون أيضا، بنزعتها النقدية المعروفة، مثيرة للجدل، ومؤسسة للخصومات الفكرية الخلاقة، والتي قد يسئ البعض ترجمتها وفهما، وتصبح مجرد حروب دونكشوتية بلا معنى، وإذا كان هناك من صعب عليه قراءة الرسائل الاحتفالية، قراءة سليمة، فإن الذنب ليس ذنب الاحتفالية بل تأكيد، وعليه، فإننا ـ في هذا الكتاب الجديد ـ سنحاول أن نوضح الواضحات من جديد.
وخرجت هذه الفكرة الاحتفالية إلى الوجود في زمن النضال والمقاومة، الشيء الذي جعلها، وبشكل آلي وتلقائي، تكون فكرة مقاومة ومناضلة، وأن يكون نضالها دفاعا عن الحياة والحيوية، ودفاعا عن الإنسان والإنسانية، ودفاعا عن المدينة والمدنية، ودفاعا عن الجمال والجمالية، ودفاعا عن العيد والعيدية، ودفاعا عن الصدق والمصداقية، ودفاعا عن الحق والحقيقة، وعن العدالة والفضيلة.
هذه الفكرة ـ الأم، أنتجت غيرها من الأفكار الأخرى، وكانت بعض هذه الأفكار أفكارا حقيقية، وكان بعضها الآخر مجرد ظلال أو مجرد صور، أو مجرد نسخ كربونية باهتة، كما أنها ـ من جهة أخرى ـ قد أوجدت في ذاتها معادلها، وأسست مضاعفها، وأنتجت نقيضها، فكانت بذلك وجها وظهرا، وكانت حالات ومقامات، وكانت مراحل ومحطات، وكانت أبعادا ومستويات،  وبهذا حققت الانتشار بالانشطار، فخرجت من الوحدة إلى التعدد، ومن المغلق إلى المنفتح، ومن الكائن إلى الممكن، ومن النسبي إلى المطلق، و من الفكرة إلى الفكر، ومن النظر إلى التنظير.
هذه الفكرة، هي أكبر من أن يحتكرها مفكر بمفرده، ولهذا فقد تقاسمتها مع الآخرين، لأنني وجدت لديهم من الأفكار ما يشابهها، أو ما يتقاطع معها، وبهذه تحولت تلك الفكرة المؤسسة إلى شجرة أفكار، وتعددت الأفكار، بعضها إلى جانب بعض، لتصبح بعد ذلك غابة أفكار واسعة وكبيرة جدا جدا، وبهذا فهي لا يمكن أن تتجسد في شخص زعيم سياسي، أو في جسد قائد عسكري، أو في شخص شيخ قبيلة أو شيخ طريقة صوفية، وذلك لأن الأساس في الاحتفال ـ أي احتفال ـ أنه فعل جماعي، وأنه إحساس جماعي، وأنه يستند دائما إلى ذاكرة جماعية عامة، وإلى وجدان جماعي مشترك، وهو بهذا حق مشاع بين الناس كافة، وعليه، فإنه لا يعقل أبدا أن تجد جماعة تحتفل بأمر السلطان، أو بأمر الوزير، أو بأمر القائد الملهم، أو بأمر المدير، لأن مثل هذا الاحتفال ـ في حال وقوعه ـ فإنه لن يكون إلا تمثيلا وتدجيلا ورياء وتقية ونفاقا، وانطلاقا من هذه الفكرة، قاومت الاحتفالية سياسة البهرجانات الزائفة والمضللة، وقاومت سياسة إلزام الشعب بإظهار مظاهر الفرح، في الوقت الذي يعيش فيه هذا الشعب حالات الأسى والغضب، ويعاني من حالات الخوف والقلق.



 
  د. عبد الكريم برشيد /المغرب (2010-10-02)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة
أنا الموقع أعلاه
في البدء كانت الفكرة-د. عبد الكريم برشيد /المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia